العلاقة بين اللفظ والمعنى، من السقراط حتّی علم الهرمينوطيقا

بقلم كاظم عظيمي

تمهيد

العلاقة بين اللفظ والمعنى موضوع عريق تناولها العلماءُ منذ زمن بعيد، اِذ لانجدُ من العلماءِ القدامي احداً ضَرَبَ سَهْماً في مجال اللغة اوالبلاغة اوالنقد اِلّا والعلاقة بين اللفظ والمعنا، كانت احدی اغراضه ومراميه. يبدوان هذا الامر يرجع الي اهمية العلاقة بين اللفظ والمعنى في العلوم اللغوية والبلاغية. إن درسنا هذه العلاقة من من منظار تاريخي نصل الي اَنّ لارسطو، سقراط وافلاطون من العلماء اليونانيين نظراتٍ تتعلق بهذه الظاهرة. وقد ناقشنا في هذا المقال آراء العلماء العرب القدامي وغيرهم من الهنود والسريان، واللغويين الغربيين المحدثين وعلماء العرب المحدثين.

قال العلماء في تعريف المعنی؛ المعنی هوالقصد الذي يقع به القول علی وجه دون وجه واذن كيف يمكن ان نحكم بان هناك علاقة تُطْلِعُنا علی معنی اللفظ لانّ الاسئلة التالية تخطر ببالنا مفاجئة:
- اولاً: ما هي نوع هذه العلاقة وهل يمكن ان نتاكد منها في جميع المواضع؟
- ثانياً: ما هي الدلائل العلمية التي ترشدنا الی صحة هذه العلاقة بصورة جلية؟
- ثالثاً: هل يمكن تعميم هذه العلاقة الي جميع اللغات اوتنفرد باللغة العربية وحدها؟
- رابعاً: كيف كان هذه العلاقه في حياه اللغة البدائية وكيف تطور؟
- خامساً؛ ان قبلنا ان اللغه في عملية تداول دائم کيف نبرر هذه العلاقة اساسا؟
لست اري بانه لايوجد هناك علاقة بين اللفظ والمعنى ولكن علينا ان نبحث عن كيفية هذه العلاقة وحدودها وأن لا نقتنع بآراء القدماء من العرب والغربين في هذا الصدد.

منهجنا في هذه الدراسة يمكن ان نسميه المنهج المقارن العام، واللفظة الاخيرة هي ما اضفتها من عندي، لأنّ المنهج المقارن في حد ذاته – ليس شاملاً جميع ما نريد، نري في تعريف المنهج المقارن كما يقول الدكتور علي عبدالواحد الوافي بالنسبة للاساس الذي يقوم عليه المنهج المقارن هو« الموازنة بين الظواهر اللغوية في طائفة من اللغات لاستنباط خواصها المشتركة وللوقوف علي وجوه الاتفاق والخلاف في عواملها ونتائجها ، وللوصول من وراء هذا كله الي كشف القوانين العامة الخاضعة لها في مختلف مظاهرها »
من هذا التعريف الشامل للمنهج المقارن نسطيع ان نستنبط اموراً هامة تضبط المنهج وتجنب من ينتهجه المزالق المفضية الي الخروج عن حدوده، اوالخطأ في فهمه وتطبيقه؛
اولها أن الموازنة لاتعقد بين لغتان تنتميان الي اسرتين مختلفتين؛ كالعربية والسامية والايطالية الاتينية وانما تعقد بين لغتين تجمعهما وحدة الارومة كالايطالية والفرنسية اللاتينيتين والعربية والعبرية الساميتين.
ثانيهما أنّ الموازنة لاتعقد بين الظواهر اللغوية التي تطورت حتي ابلغها التطور من الاختلاف بلغت حدّ التدابر والتنافر، بل بين الظواهر اَمْ الصيغ القديمة الاولي التي يغلب علي ظن الباحث أنها من الموروث المشترك المتحدر من اللغة الامّ التي اَنْجَبَتْ اللغتين.

ثالثها أن الغرض من الموازنة استنباط الخواص المشتركة ، وهذه الخواص اعمق من استعارة المفردات.
رابعُها أن الغرض من المقارنة الوصول الي اوجه الشبه واوجه الخلاف بين اللغتين، وتحديد العوامل الاجتماعية والسياسية والدينية والجغرافية التي عملت عملها البطيء حتي تمّ انمياز اللغتين ، وههنا يبرزالمنهجُ التاريخي ليُدلی برأيه في المقارنة لقدرته علي الغوص في اغوار اللغتين وكشف جذورهما.

وخامسها ان الارتقاء بالنتائج التي تتمخّص عنها الدراسة المقارتة بين لغتين متحدرتين من اسرة واحدة الي الافق الانساني يشقّ الطريق امام علم اللغة العام.

الارضية في تحديد المنهج المقارن، كما مرّت هي اللغتين ( وليس لغات) اللتين تجمعهما وحدة الارومة و... فالسوال هنا هو: ما صنيعنا ان اَرَدْنا دراسة ظاهرة العلاقة بين اللفظ والمعنى في جميع اللغات اوالاصلية منها والتي لاتجمعها وحدة الارومة و...؟ هل هناك صعوباتٌ اوتضييقات لدارسة الظاهرة في جميع اللغات لكي نصل الي نتائج عامة شاملة؟ كيف يصحّ اَنْ نفتح آفاقاً للبحث عن هذه الظاهرة بشكل عام دون اعتبار جميع اللغات؟ هل يجوز لنا تعميم نتائج الدراسات المحددة الي جميع اللغات والبحوث؟ أيمكن القول بان العلاقة بين اللفظ والمعنى ظاهرة لاتنفرد بلغةٍ اولُغَتَيْنِ دون جميع اللغات؟
هذه الاسئلة حمتلني الي دراسة ظاهرة العلاقة بين اللفظ والمعنى – وان كانت متواضعة – قدر استطاعتي وسعيتُ فی هذا البحث اَنْ أتناول اللفظ والمعنى في المعاجم العربية، اللفظ والمعنى عند العلماء القدامي اليونانيين والهنود والسريانية من مثل؛ ارسطو، افلاطون ، سقراط و...، اللفظ والمعنى عند علماء العرب القدامي، اللفظ والمعنى عند علماء اللغة الغربيين المحدثين، وأخيراً علاقة اللفظ والمعني فی علم الهرمنوطيقا.
لا ريب أنّ البحث في المسائل المقارنة العامة يتطلب ثقافة واسعة فضلاً عن بعض الالمام باللغات الاجنبية المتصلة بمجال البحث المقارن من جانب، والفروع التي ظهرت في القرن الحالي في مجال البحوث اللغوية كالسيميائية والفونولوجيا والانتولوجيا اللسانية، علم التشكيل الصوتي، علم الدلالة، علم الاصوات والجانب الصرفي، الجانب النحوي و... من جانب آخر.

اولا؛ اللفظ والمعنى في المعاجم العربية

اذا اردنا ان نتتبّع الظاهرة اللفظ والمعني فلابُدَّ لَنا ان نبدأ بمعنی الكلمتين « اللفظ والمعنی » في المعاجم العربية كأولّ خطوة للغوص في هذا الموضوع ؛

اولاً : لفظ

جاء في الصحاح؛ اولاً الدلالة العامة للمادة (لفظ) وهي ( الرمي من الفم): لفظت الشيء من فمي الفظه لفظاً، رميته ثم يعدّد الدلالة المخصصة اذ يكون الملفوظ من الفم كلاماً: لفظت بالكلام وتلفظت به اي تكلمت به، وبعدها يعين المفردة بانها « اللفظ جمعها الالفاظ»
اما ابن فارس في المقاييس فهويقول ان مادة لفظ تعني اولاً الدلالة علي الطرح المطلق، ثم هي يغلب عليها ان تكون من الفم ثم يخصص الفعل، فتقول: « لفظ الكلام يلفظ لفظاً» وبعدها يورد واحداً من المشتقات، وما يحتمله من دلالات «اللافظة: فهوالديك [ لصوته وللرحی لطرح الحبوب المطحونة ] والبحر [ لاخراجه اشياء كثيرة من جوفه].

ياتي الازهري في التهذيب بدلالة الرمي من الفم علي انها الاولی فاللفظ هوان ترمي بشيء كان في فيك، والفعل لفظ يلفظ لفظاً، ثم يخصّص المادة بالكلمات واللفظ للفظ الكلام ... بعد ذلك يورد عبارة كنائية هي ( لفظ فلان عصبه) اذا مات وعصبه؛ ريقه الذي عصب بفيه أی غری به فيبس.
يظهر لنا من خلال ما مرت في بيان اللفظ انه ايسرُ شيء للتعبير عما في صدر الانسان من المعاني والاغراض ومثل اللفظ – عندنا – مثل مركب يسير براكبه للوصول الي المقصد المنشود وتزيد اهمية اللفظ عند ما نتذكر بانّ المتكلم بامكانه أن يستخدم عدة انواع من التعابير لمطلب واحد اوعدة مطالب في تعبير واحد و... فاذن علينا ان ناخذ اللفظ وملابساته ودراسته بعين الاعتبار.

ثانياً ؛ عني والمعني .

يطالعنا الجوهري بدلالة عامة واوية اللام هي الاخراج والاظهار، عنوت الشيء: اخرجته واظهرته. ثم يلتفت الي التخصيص فيورد الفعل اليائي اللام. عنيت بالقول كذا اَعني عناية : قصدت واردت، ثم يحدد الصيغة (المعني) اي الفحوی، ومعنا الكلام ومعناته واحد.

ابن فارس يسرد في اول المادة دلالتها سواءً أكانت واوية الاعلال اويائية فثمّ؛ القصد للشيء بإنکماش فيه وحرص عليه، والثانی دالّ علی خضوع وذلّ، والثالث ظهور الشیء وبروزه ومنه عنيان الكتاب وعنوانه وتفسير؛ انه البارز منه اذا ختم. ويعود ابن فارس ليحدد ما يدل عليه قياس اللغة بشكل عام اولاً « فالمعنی هوالقصد الذي يبرز ويظهر في الشيء اذا بحث عنه» ثم بشرحه بعبارة اخری، يقال: هذا معني الكلام، ومعني الشعر اي الذي يبرز من مكنون ما تضمنه الفظ.

اما الازهري فيذكر نقلاً عن الليث، الذي يتصل بالخليل، اشتقاق عنوان كتاب من المعنی، ثم يورد دلالة العناية في المادة عنی: عناني هذا الامر يعنيني عناية ً فانا معنيّ به، وقد إعتنيت بامره، يقول عنی الليث: ومعنی كل شیء محنته وحالة التي يصير اليه امره وبعدها يقول اللأزهري: والمعني والتفسير والتاويل واحد.
اذا تدبرنا التفاصيل المذكورة لِـ( عنی ومعنی) نجد أن المعني هوالذي يستقر عليه القلب ويطمئن اليه عند ارادة اللفظ. ويبد وان هذا المعنی يختلف بين آحاد الناس، لانه يمكن القول باننا لانجد اثنين ياتيان بكلام يستقران عليه من الناحية المعنوية تماماً، بل نجد انَّ هناك فروق بين الشخصين ولوكانت يسيرةً. يقول ابوعلي الفارسي في هذا الصدد: ( المعنی هوالقصد الي ما يقصد اليه من القول، فجعل المعني القصد، لانه مصدر ولايوصف الله تعالی بأنه هوالمعنی اذا كان المقصود في الحقيقة حادث».

ثانيا؛ علاقة اللفظ والمعنی عند اليونانيين والهنود والسريانية

ان وظيفة اللغة تكاد تنحصر في الدلالة علي معنی اوْ فكرةٍ تدور في فكر المتكلم وذهنه لكنها ذات قوّة مسيطرة لايستطيع التحلل منها عضو ٌمن اعضاء الجماعة كائناً من كان وعلاقة هذه الرموز الصوتيه بالمدلول اوالمعني غير المعروف.

1- عند اليونانيين

يرى أفلاطون واستاذه سقراط والسوفسطائيون ان الصلة بين الالفاظ ومدلولاتها صلة طبيعية ذاتية اي انها تثير في الذهن مباشرة مدلولاتها المخصصة لها، مع ادراكهم أنّ الصلة قد تنقطع نتيجة لتقادم العهد اوتطور الاصوات وان لم يستطيعوا اثبات هذه الصلة في بعض الالفاظ، لجأوا الی افتراض « ان الصلة الطبيعة كانت واضحة سهلة التفسير في بدء نشاتها، ثم تطورت الالفاظ ولم يعد من اليسير ان نتبين بوضوح تلك الصلة، اونجد لها تعليلاً اوتفسيراً.

يرفض ارسطوايضاً فكرةَ استاذه -# افلاطون – ويري انّ الصلة هي عرفية اصصلاحية يتواضع الناس عليها في مجتمع ما، ويری سقراط انّ بعضَ الالفاظ له صلة طبيعيةُ بالمعني وبعضها الآخر ليس له صلة طبيعية، وانما اصطلح الناس علي الالفاظ لتدل علي المعاني التي يريدون، وترسخت هذه الالفاظ ومعانيها في الاذهان عن طريق التكرار.

2- عندالنهود.
لقد جذب موضوع العلاقه بين اللفظ والمعني اهتمام الهنود، ربما قبل ان يجذب اهتمام اليونانيين، وقد بدأ جمهوُر كبير من فلاسفتهم المناقشة، بان تحدثوا عن ثلاثة اقسام مختلفة في جوهرها؛ هي ما يسمی بالكلمة والادراك والمحتوی.
ففي حين تعد الكمة مركَّبة من وحدات صوتية ضمّ بعضها الي بعض، فانَّ الشيءَ المحسوس (بقره) مثلاً ينظر اليه باعتباره نوعاً معيناً من الحيوانات له اعضاء معينة اما الادراك اوالتصور فهوالربط بين اللفظ والشيء المدلول عليه وهويستلزم معرفة سابقة بها.
ولكن اذا كان الدال والمدلول عليه امرين متباينين وليس هناك علاقة اساسية بينهما، فكيف يكمن اللفظ انْ يدلَّ علي فكرة معينة اوعلي شيء ما؟ لقد اختلفتْ آراءُ الهنود في الاجابة علی هذا السئوال، واصطبغ بعضها بصبغة لاهوتية اوفلسفية، ومن هذه الآراء ما ياتي؛

    نجد بعضهم يرفُضُ فكرةَ التباين بين اللفظ والمعنی قائلاً؛ انَّ كلَ شيءٍ يُتصور مقترن بالوحدة الكلامية الخاصة به اوالدالة عليه، ولايمکن فصل احدها عن الآخر، علی هذا فنحن نَعدّ الكلمة عنصراً من العناصر المكونة للشيء تماماً، كما نعدّ الطين السبب المادي اوالرئيس لكل المواد الترابية فكما ان تصور الطين مشترك في كل ادراكات الأشياء التي يعرف انها مصنوعة من طين، من مثل الاناء، الصحن والقدر ونحوها، فكذلك تصور الوحدة الكلامية.
    نجد بعضاً آخر يصرحون بان العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة قديمة وفطرية اوطبيعية، وربما كان اصحابُ هذا الراي هم انْفُسُهم الذين يعدون نشاةَ اللغة علي اساس محاكة الاصوات الموجودة في الطبيعة .
    اما جماعة اخري من الفلاسفة اللغويين النهود، فيقولون بوجود نوع من العلاقة الضرورية وغير المتنوعة بين اللفظ والمعني، شبيه بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان، وهم يشرحون وجهة نظرهم قائلين: لابُدّ من الاعتراف بان كلمة معينة تملك نوعاً من العلاقة مع فكرة معينة مدلول لها بها، والا فما السبب في ربطها بها؟ اننا نتصورُ النارَ والدخان لانهما يتفقان في علاقة السببية والاثر، ولكن ماذا يكمن ان تكون العلاقة الموجودة بين الكلمة والشي الذي تدل عليه؟
    اما الطبقة الرابعة منهم يرونَ ان الصلة بينهما مجردٌ علاقة حادثة مرتجلة، لكن طبقاً لارادة الهية، فعلی الرغم مما يَبْدوفي آراء هذه المدرسة من مسحة علمية، فانّهم لم يستطيعوا التخلصَ من العامل الميتافيزيقي حين قرروا ان المعنی الاساس للفظ لَمْ يَاْتِ عَنْ طريقِ الاصطلاح، وانها جاء عن طريق الاله.

ثالثا؛ علاقة اللفظ والمعنی عند علماء العرب القدامی

برزت مسالةٌ صلة الاصوات بمعانيها امام علماء العربية، منذُ اَن بدأوا بالمشاركة العلمية، ومنها الحركة اللغوية علي مختلف المستويات. قد مالَ اكثر اللغويين الي القول بالصلة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، لمّا راوا في اللغة العربية من ميزاتٍ قلما تجمع في غيرها من اللغات، فدفعهم الاعتزاز الشديد بها الی تملس معافي الاصلوات المجردة، وتاويل معان اخری إن عجزت قواعدهم عن تفسير معاني بعض الالفاظ.
يمثل القرن الثاني الهجري البدايات الرائدة لإدراك صلة الأصوات بالمعاني حيث يجد اشارات الصلة بين اللفظ ومدلوله عند الخليل بن احمد الفراهيدي وتلميذ سيبويه ( الذي يجيب للتصرف الالفاظ في المعاني؛ إعلم أنّ من كلام العرب اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعنی واحد واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. علی ان مسالة تصرف الالفاظ في المعاني حاضرة في كل باب من ابواب الكتاب تقريباً اذ ما من مسالة نحوية يتناولها بالتحليل الا ونجده يربط بين التغيرات التي تحدث علی مستوی اللفظ وبين ما ينتج عنها من تعديل اَو ْتحوير علي مستوي المعني ) قال الخليل: كانهم (العرب) توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً، فقالوا: صَرَّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر.

وقال سيبويه ايضاً ومن المصادر التي جاءت علي مثال واحد حين تقاربَتْ المعاني: النَزَوان والنقزان والقفزان وانّما هذه الاشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع.

ففي القرن الثالث الهجرين فسّر المعتزلة الظواهر اللغوية تفسيراً عقلياً، فقد نسب السيوطي (ت 911 هـ) الی عبادبن سليمان الصيمري من المتعزلة أنه يری ان بين اللفظ ومدلوله صلة طبيعية، واحتج بأنّ الالفاظ ازاء المعاني لم توضع اعتباطاً، وانما اختار لكل لفظ معناه الذي توحي به اصواته.
وفي القرن الرابع الهجري ياخذ ابن دريد (321هـ) في كتابه (الاشتقاق) بالصلة الطبيعية في تفسيراته علي العلاقة بين اللفظ ومدلوله، حيث فسر تسمية العرب ابناءهم تفسيراً يعتمد علی هذه العلاقة الطبيعية، يقول (( واعلم ان للعرب مذاهب في تسمية ابنائها، فمنها ماسّموه تفاولاً علی اعدائهم نحوه غالب، غلاب و... ومنها ما سمي بالسباع ترهيباً لاعدائهم، نحو؛ اسد، وليث وفراس، وذئب و...))
ومع أنّ معظم اللغويين العرب لاياخذون بهذا الرای، نری كثيراً منهم يربطون في مولفاتهم بين الالفاظ ومدلولاتها ربطاً وثيقاً يكاد يشبه الصلة الطبيعية اوالذاتية، ولعل السرّ فی هذا الاتجاه هواعتزازهم بتلك الالفاظ العربية واعجابهم بها، وحرصهم علی الكشف عن اسرارها وخباياها.

وفي دراسة إبن جني لهذه الفروق اللغوية، بَلْوَرَ مفهوم الصلة بين اللفظ ومدلوله الذی وضعه في اربعة ابواب من كتاب الخصائص، وهي:
الباب الاول: تلاقي المعاني علي اختلاف الاصول والمباني: يربط ابن جني بين كَلِمَتْي ( المسك والصوار ) فيقول: اِنّ كلاً منهما يجذب حاسّة من يَشّمُهُ، أی إنّ المسك في رايه إنما سمي كذلك لانّه يمسك حاسة الشم ويجتذبها.
الباب الثاني: الاشتفاق الاكبر: ... الكلمة مهما قلّبتها تشتمل علي معنی عام مشترك، ويضرب لنا مثلاً بمادة ( ق س و) فيقول؛ ومن ذلك تراكيب ( ق س و) فيقول؛ ومن ذلك تراكيب (س ق و) الباب الثالث: تصاقب (ای تقارب) الالفاظ لتصاقب المعاني: يذهب الی ان مجرد الاشتراك في بعض الحروف يكفي احياناً للاشتراك في الدلالة. فالهزّ والازّ متقاربان في المعني، وهما ايضاً متقاربان في اللفظ.
الباب الرابع: امساس الالفاظ اشباه المعاني: اَی وضع الالفاظ علی صورة مناسبة لمعناها وتجد المصادر الرباعية المضعفة تاتي للتكرير، نحوالزعزعة والقلقله.
رابعا؛ العلاقة بين اللفظ والمعنی عند المحدثين العرب

يقول احمد فارس الشدياق في كتابه الساق علي الساق؛ ان كل حرف يختصّ بمعنی من المعاني دون غيره وهومن اسرار اللغة العربية التي قلّ من تَنَبَّهَ لها. أمّا صبحي الصالح، فلم يويد وجود صلة بين الالفاظ ومعانيها فحسب، بل واُعْجِبَ بهذا الرأی ايضاً،... فيقول: (( اما الذي نحن نريد الآن بيانه، فهوما لاحَظَه علماونا من مناسبة حروف العربية لمعانيها، ومالمحوه في الحرف العربي من القيمة الموحية)).
يقول محمد المبارك: (( للحرف في اللغة العربية ايحاءً خاصاً، فهوان لم يكن يدل دلالة قاطعة علی المعنی، يدلّ دلالة اتّجاه وايحاء، ويثير في النفس جوّاً يهيیء لقبول المعنی، ويوجه اليه ويوحي به)).

أمّا هناک منكرون بوجود صلة طبيعية بين اللفظ ومعناه، نسلط الأضواء علی آراء بعض منهم. 1- تمام حسان: فانه بعد ان تبنّی نظرية دي سوسير بالنسبة الي العلاقات اللغوية للتفكير، عقّب عليها بقوله « وليس في الفكر ما يفرض شكلاً معينا للرموز الصوتية، فهذه الرموز موضوعة وضعاً اعتباطياً» ((... فالعلاقة بين الكلمات ومعانيها علاقة عرفية محددة بالاستعمال، ومدونة في المعجم)).

2- عبده الراجحي: فانه ينكر وجود مناسبة بين الالفاظ ومعانيها، فيقول: غير انّ اقتناع ابن جني بهذا الراي، واعجاب الدكتور صبحي الصالح به لا يمنع من التاكيد علي ان اهل اللغة بوجه عام يطبقون علي رفضه، وَ يَرون انه ليس هناك مناسبة بين اللفظ ومدلوله، وليست هناك علاقة بين الرمز الشي والذي يرمز اليه.
3- رمضان عبدالتواب: فإنه بعد ان نقل رواية السيوطي، شكك في صحتها، وقال معقباً عليها : (( فانه لوصحّ ما قاله لإهتدی كل انسان الی كل لغة علی وجه الارض)).
4- ابراهيم انيس: فيقول (( والامر الذي لم يبد واضحاً في علاج كل هولاء الباحثين هووجوب التفرقة بين الصلة الطبيعية الذاتية والصلة المكتسبة، ففي كثير من الفاظ كل لغة نلحظ تلك الصلة بينها وبين دلالتها،ولكن هذه الصلة لح تنشاء مع تلك الالفاظ اوتولد بمولدها وانها اكتسبتها اكتساباً بمرور الايام وكثرة التداول والاستعمال))

خامسا؛ العلاقة بين اللفظ والمعنى عند المحدثين غير العرب

لقد تفاوتت آراء المحدثين الغربيين في مسالة الربط بين الالفاظ ومعانيها بحيث لم يتفقوا علی راي موحّد في هذه الظاهرة. فمنهم من يری وجود صلة طبيعية بين الالفاظ ومعانيها، ومن هولاء

    همبلت (ت 1835.م) يری ان اللغات بوجه عام توثر التعبير عن الاشياء بوساطة الفاظ اثرها في الآذان يشبه اثر تلك الاشياء في الاذهان. بيد أن همبلت حين افتقد تلك الصلة في معظم كلمات اللغة ووجدها غامضة، ادّعی ان الصلة بين اصوات الكلمات ومدلولاتها قد اصابها بعضُ التطور واختفت مع توالي الايام))
    واذا كان جسبرسن Jespersen ممّن ينتصرون لاصحاب المناسبة بين الالفاظ ومعانيها، فانه في الوقت نفسه يری ان هذه الظاهرة لاتكاد تطرّد في لغة من اللغات، وأنّ بعض الكلمات تفقد هذه الصلة علي مرّ الايام، في حين ان كلمات أخری تكتسبها وتصبح فيها واضحة بعد ان كانت لا تلحظ فيها. ومنهم من ينفي وجود علاقة طبيعية بين الالفاظ ومعانيها، ومن هولاء؛

    مدفيج Madvig، فقد عارض مدفيج راي همبلت، وأورد كثيراً من كلمات الفصيلة الهندية الاوروبية، تناظر في معناها تلك الكلمات التي استدلّ بها همبلت، وتخالفها في الاصوات.
    يعد دي سوسير De Saussure من اشهر المعارضين لاصحاب الصلة بين الالفاظ والدلالات، اذ يراها اعتباطية لا تخضع لمنطق اونظام مطّرد، ومع اعترافه بتلك الصلة في الالفاظ التي تعد بمثابة الصدی لاصوات الطبيعة ، ويقرر انها من القلة في اللغات، ومن الاختلاف والتباين باختلاف اللغات الانسانية، بحيث لايصحّ ان نتخذ منها اساساً لظاهرة لغوية مطّردة، اوشبيهة بالمطّردة، هي – اذن – في رايه مجرد الفاظ قليلية تصادف ان اشبهت اصواتها ودلالاتها.
    ستيفن أولمان، الذي نفی وجود علاقة طبيعية اوذاتية بين اللفظ ومعناه، واستدلّ بقول جوليت علی لسان شكسبير: « ماذا في اللفظ ؟ إنّ ما نسميه وردة سوف تحتفظ برائحته الزكية فيها لوسميناه باسم آخر» يظهر مما مضی انه لايمكن ان نقبل اونرفض نظرية العلاقة بين اللفظ والمعنىباسره اذ لا تقنعنا دلالة بعض الاوزن كالفعلان في قول سيبويه اوالاصوات في قول ابن جني كما مّرت. لأنّ الفاظ اللغة وعباراته جم غفير ولانستطيع ان نطبق كهذه الظواهر في اللغة العربية ولا في اية لغة اخری تماماً. وربما حمل العربَ – كما مرّ اعتزازهم بلغتم وفصاحته علی هذه الاقوال. وما نحن في صدده انه يمكن القول بان الفاظ اللغة يمكن ان يكون لبعضهم علاقة بالمعاني ويندرج في هذا الباب – في رائي – ما سماه ابن اجني تلاقي المعاني علي اختلاف الاصول والمباني، الاشتقاق الاكبر و.... ويمكن ان لايكون لبعضهم الاخر ايّة علاقة بين الالفاظ والمعاني.

سادسا؛ علاقة اللفظ بالمعنی عند الاصوليين

إن نظرنا الی آراء الاصوليين والفقهاء بصورة عابرة خاطفة فيقسمون علاقة اللفظ بالمعنی عدة تقسيمات منها؛
اللفظ باعتبار المعني الذی وضع له ثلاثة اصناف؛ الخاص والعام والمشترك.
اللفظ باعتبار المعني الذی استعمل فيه ضمن سياق صنفان؛ حقيقة ومجاز
اللفظ باعتبار درجة وضوح معناه صنفان رئيسان، محكم ومتشابه وتتدرج الالفاظ من المحكم الی المتشابه حسب الترتيب التالي؛

المفسّر النصّ الظاهر الخفيّ المشكل المجمل

والفظ باعتبار طريق دلالته علی المراد منه اربعة اقسام؛ دلالة الاشارة، دلالة النصّ ودلالة الاقتضاء وانواع الدلالة عند الشافعية هي؛ دلالة المنظوم والمقصود؛ دلالة المفهوم وهي نوعان ؛ مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة وهوانواع؛ مفهوم الصفة؛ مفهوم الحصر؛ مفهوم الشرط؛ مفهوم الغاية؛ مفهوم العدد (41)

سابعا؛ علاقة اللفظ بالمعنی في علم الهرمينوطيقا

يمثل المفكر الالماني شلير ماخر(1843م) الموقف الكلاسيكي بالنسبة للهرمينوطيقا، تقوم نظريته علي اساس انّ النص عبارة عن وسيط لغوي ينقل فكر المولف الي القاريء. وبالتالي فهويشير-# في جانبه اللغوي-# الي اللغة بكاملها. ويشير-# في جانبه النفسي-# الي الفكر الذاتي لمبدعه.
والعلاقة بين للجانبين علاقة جدلية. وكلما تقدم النص في الزمن صار غامضاً بالنسبة لنا وصرنا-# من ثم – اقربَ الی سوء الفهم لاالفهم. وعلی ذلك لا بدّ من قيام علم اوفنّ يعصمنا من سوء الفهم ويجعلنا اقرب الی الفهم.

وينطلق لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانَبي النص؛ اللغوي والنفسي. يحتاج المفسر للنفاذ الي معنی النص الي موهبتين؛ الموهبة اللغوية، والقدرة علي النفاذ الي الطبيعة البشرية... يری ماخر انّ اللغة تحدد للمولف طرائق التعبير التی يسلكها للتعبيرعن فكره. هناك اذن في اي نص جانبان؛ الجانب الموضوعي يشير الي اللغة، وهوالمشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة، والجانب الذاتي يشير الی فكر المولف ويتجلي في استخدامه الخاص للغة.

في المرحلة الاخري نری ويلهم ديلثي (1833-# 1911) يتحدد الاساس المعرفي في ان كل معرفة قائمة علي التجربة المعاشة. وهي عملية الادراك الحسي، وليست الخبره باعتبارها موضوعاً للتامل العقلي، اي انها التجربة السابقة علي ثنائيه الذات والموضوع، هذه الثنائية تكون عادة من صنع الوعي المفكر في تامله للتجربة بعد مرورها....
التجربة الذاتية هي اساس المعرفة، وهي الشرط الذي لايمكن تجاوزه لِِِِايِّ معرفة. ولما انّ هناك مشتركاً بين الآحاد من البشر، فإنّ التجربة تصبح ِهي الاساس الصالح لادراك الموضوعي القائم خارج الذات...إنّ تجربة المبدع تتجاوز اطار ذاتيتها، وذلك لانها تتجسد من خلال اداة موضوعية هي اللغة في حالة التعبير الادبي وهي من ثم تعبرعن تجربة الحياة. انّ ديلثي يعتبر ان التعبير عن تجربة الحياة ياخذ اوفی اشكاله في الفن عموماً والادب خصوصاً.

يعتبر ديليي ان الفن والادب تعبير عن التجربة المعاشة للحياة. يعبر الفكر والفعل عن تجربة الحياة وليس التجربة الحية المعاشة. وكذلك تنصب الهرمينوطيقا علي معني اوسع من مجرد النص، انها تدلّ علا فهم التجربة كما يفصح عنها – بشكل كاملا-# العمل الادبي، طالما انه يتجسد من خلال وسيط مشترك هواللغة التي يخرج بها من اطار الذاتية الي الموضوعية.

يقيم مارتن هيدجر الهرمينوطيقا علي اساس فلسفي، اويقيم الفلسفة علي اساس هرمينوطيقي ... لقد راي هيدجر – في وعی الانسان لوجوده – مفاتيح لفهم طبيعة الوجود كما يفصح عن نفسه في طبيعة حية ... هذا الوعی – في نظر هيدجر – يتجاوز مقولات الزمان والمكان ومفاهيم الفكر المثالي. ان حقيقة الوجود – عند هيدجر – تتجاوز الوعی الذاتي وتعلوعليه، وبما ان هذا الوعی تاريخي وان بدا بالادراك الذاتي للوجود، فهوعملية فهم مستمرة.

ان الاشياء تكشف نفسها من خلال اللغة. الكلام واللغة هنا ليست اداة للتوصيل بل اخترعها الانسان ليعطي للعالم معنی، اوليعبر عن فهمه الذاتي للاشياء. اللغة تعبر عن المعنوية القائمة بالفعل بين الاشياء. إنّ الانسان لايستعمل اللغة، بل اللغة هي التي تتكلم من خلال لسان الإنسان. العالم ينفتح للانسان من خلال اللغة. وبما ان اللغة هي مجال الفهم والتفسير، فالعالم يكشف نفسه للانسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير. ليس معني ذلك انّ الانسان يفهم اللغة، بل الأحری القول انه يفهم من خلال اللغة. اللغة ليست وسيطاً بين العالم والانسان، ولكنها ظهور العالم وانكشافه بعد ان كان مستتراً، ان اللغة هي التجلي الوجودي للعالم ... ان الفهم ليس شيئاً يمكن تحصيله وامتلاكه، بل هوشكل من اشكال الوجود في العالم، اوعنصر موسس لهذا الوجود .
يركز جادامر بشكل اساسي علي معضلة الفهم باعتبارها معضلة وجودية... انه يبدأ من سئوال فلسفي – كما فعل هيدجر – عن علاقة الفهم بتجربتنا الكلية التي تتجاوز اطار المنهج بمعناه العلمي.... هرمنوطيقة جادامر لاتسعي-# مثل هرمنوطيقية ديلثي – للبحث عن منهج الإنسانيات، ولكنها محاولة لفهم العلوم الانسانية علي حقيقتها بصرف النظر عن المنهج، ولفهم علاقتها بتجربتنا الكلية في العالم. ان عملية الفهم-# في الانسانيات – عملية تتجاوز اطار المنهج، اذا المنهج لاينتج في النهاية الا ما يبحث عنه. إنََّ ايّ منهج يتضمّن اجاباته، ولا يوصلنا الي شيء جديد. هرمنوطيقية جادامر-# اذن-# تتجاوز اطار المنهج لتحليل عملية الفهم نفسها.
ان الفن لم يوجد لنقبله اونرفضه علي اساس من وعينا الجمالي الذاتي، والاعمال الفنية لم تبدع لاغراض جمالية خالصة، فقد كان قصد منشئيها ان يتلقي هذا الابداع علی اساس ما يقوله اويمثله من معان.
ان الوعي الجمالي – فيما يری جادامر-# له مكانة ثانوية اذا قورن بالادعاء الآني للحقيقة الذي ينبع من العمل الفني نفسه . ونحن حين نتلقي العمل الفني علی اساس وعينا الجمالي نغترب عنه، ذلك لاننا ننكر الحقيقة الكامنة في هذا العمل ... يعلن جادامر ان الفن مرتبط بالناس ويعني به أنّ الفن يتضمن داخل اطار الشكلي حقيقة هي المعنی الذي يدعيه الفن.

الحقيقة في الفن تتجلي من خلال وسيط له استقلال ذاتي، هذا الوسِيط هوالشكل الذي يستطيع الفنان من خلاله ان يحول تجربته الوجودية الي معطی ثابت .... إنّ مادة الفن تتغير وتتحول تحولاً حقيقياً. ... إنّ جادامر لايعني بمادة الفن الانعام والحجارة والالوان ولكنه يعني بها الحقيقة الوجودية التي يشكلها الفنان في العمل الفني.

إنّ عملية التلقي في هذا التصور ليست متعة جسمالية خالصة تنصب علي الشكل، ولكنّها عملية مشاركة وجودية تقوم علي الجدل بين المتلقي والعمل. انّ عملية التلقي تفتح لنا عالماً جديداً، وتوسع – من ثم – افق عالمنا وفهمنا لانفسنا في نفس الوقت. ومعنی ذلك ان العمل الفني ليس عالماً منفصلاً عن عالمنا الذاتي. اننا في تلقي العمل الفني لا نواجه عالماً جديداً غريباً ننفصل فيه عن انفسنا خارج الزمن، اننا علی العكس نكون اكثر حضوراً... اننا حين نفهم عملاً فنياً عظيماً نستحضر ما سبق ان جربناه في حياتنا، ويتوازن – من ثم – فهمنا لانفسنا.

ان عملية الجدل في فهم العمل الفني تقوم علی اساس من السئوال الذي يطرحه علينا العمل نفسُه، السئوال الذي كان سبب وجوده. هذا السئوال يفتح عالم تجربتنا الوجودية لتلقي العمل، وتنصهر التجربتان في نتاج جديد هي المعرفة التي يثيرها فينا العمل. وهذه المعرفة ليست كامنة في العمل نفسه، اوفي تجربتنا وحدها. ولكنها مركب جديد ناتج عن التفاعل بين تجربتنا والحقيقة التي يجسدها العمل.

ان العمل الفني كلعبة يبدع من المبدع كللاعب وينتهي الي المتلقي كالمتفرج من خلال وسِيط وهوالشكل كاللعبة المحايد الي حد كبير، هذا الوسِيط ثابت مما يجعل تلقيه عمليةً ممكنةً ومتكررة في نفس الوقت من جيل الی جيل وبالتالي فالحقيقة التي يتضمنها العمل الفني، حقيقة ليست ثابتة، ولكنها تتغير من جيل الی جيل ومن عصر الي عصر طبقاً لتغير افق التلقي وتجارب المتلقين ولكن الوسِيط اوالشكل الفني الثابت هوالذي يجعل عملية الفهم ممكنة.

والحلقة الاخيرة في الهرمينوطيقا يمثلها المفكرون المعاصرون مثل بول ريكور ( في فرنسا )، بيتي ( في ايطاليا ) وهيرش ( في الولايات المتحدة ) وهذه اهم آراءهم؛
يركز بول ريكور اهتمامه اساساً علي تغيير الرموز وهويفرق بين طريقتين للتعامل مع الرموز، الاولي هي التعامل مع الرمز باعتباره نافذة نطل منها علی عالم من المعنی، والرمز في هذه الحالة وسيط شفاف ينمّ عما وراءه. والطريقة الثانية يمثلها كل من فرويد وماركس ونيتشه، هي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لايجب الوثوق بها، بل يجب ازالتها وصولاً الی المعنی المختبيء وراءها. ان الرمز في هذه الحالة لايشفّ عن المعنی بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معني زائفاً. ومهمة التفسير هي إزالة المعني الزائف السطحي وصولاً الی المعنی الباطني الصحيح.

يری هيرش الدفاع عن المولف في مواجهة اهماله لحساب التجربة الحية عند ديلثي ويعتقد ان اهمال المولف نابع من تصور الذی يقول؛ ان معنی العمل الادبي يختلف من ناقد لناقد، ومن عصر لعصر، بل يختلف عند المولف نفسه من مرحلة لاخری. ولكی يتغلب هيرش علي هذه المعضلة يقيم التفرقة بين المعنی والمغزی، ويری ان مغزی النص الادبي قد يختلف، ولكن معناه ثابت. ويری ان هناك غايتين منفصلتين تتصلان بمجالين مختلفين؛ مجال النقد الادبي وغايته الوصول الی مغزی النص الادبي بالنسبة لعصر من العصور، اما نظرية التفسير فهدفها الوصول الي معنی النص الادبي.
انّ الثابت هوالمعنی الذي يمكن الوصول اليه من خلال تحليل النص، اما المتغير فهوالمغزي. ان المغزی يقوم علی انواع من العلاقة بين النص والقاري، اما المعني فهوقائم في العمل نفسه. ويقيم هيرش تفرقة بين المعنی الذي اراده المولف وبين المعنی الكامن في النص... وهذا المعنی يمكن الوصول اليه من خلال فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن ان يعنيها النص.

انّ بيتي يريد ان يعيد الهرمينوطيقا الي مجالها الطبيعي كما كانت عند شلير ماخر في التركيز علی فهم النصوص ويری من الضرورة ان تركز الهرمينوطيقا مجال دراستها علی معنی النص وصولاً الي تفسير موضوعي لايتدخل فيه المفسر ليفرض رويته علي النص. ويری كل من بيتي وهيرش ان المنهج الفيلولوژي هوالمنهج الامثل لتفسير النصوص.

ويُعدّ الجدل بين كل من بيتي وجادامر هوالصراع القائم في الفكر المعاصر في مجال هرمينوطيقا والذي ينقسم الی اتجاهين؛ اتجاه بيتي وهيرش في التركيز علي النص والمولف، واتجاه جادامر في البدء من موقف المفسر الراهن باعتبار هذا الموقف (الوجودي) هوالموسس المعرفي لاي فهم.
الخاتمة

علينا ان نشمّر عن ساعدنا للبحث والدرس في تراثنا الديني – الاسلامي مستفيداً من الآراء الجديدة المتطورة في مجال النقد والادب واللغة والمعرفة. يعتقد شيلر ماخر اَن لابُدّ للمفسّر اَن يتسلّحَ بالموهبة اللغوية والقدرة علي النفاذ الي الطبيعة البشرية والنص يكون بمثابة وسيط بين المولف والقاریء.
ويری ويلهم ديلثي ان فهم العمل الادبي يقف علي فهم اللغة التي المنبتة من فهم التجربة المعاشة ثم يعتقد مارتين هيدجر ان اللغة تحليل وجودي للعالم لان حقيقة الوجود عملية الفهم المستمرة ولدی وعي الانسان مفاتيحُ لفهم طبيعة الوجود.

اما جادامر يهتم باثبات جدلية عملية الفهم بين المتلقي والعمل وغاية الفن درك المعاني والحقايق المتغيرة بالنسبة للمتلقي وراء شكل الفن ويحتم علينا ان نتجاوز المنهج لتحليل عملية الفهم ثم فهم حقيقة العلوم الانسانية. اما-# بول ريكور، يركز علي الرموز اما نافذة علی عالم المعنىواما حقيقة زائفة يجب ازالتها وصولاً الي المعني المختبيء. يقسم هيرش كما ذكرنا الجهة المعنويه لايّ نص الي قسمين: المعنی وهوالثابت ويتناوله التفسير والمغزی وهوالمتغير لعلاقة ما بينه وبين القاریء ويتناوله النقد الادبي.

إنه يمكننا الإقرار بأن وعي النقاد العرب القدماء بمشكلة اللفظ والمعنى، ووجوه التناول التي أفرزتها محاولات استقصائهم الموضوع، تتجاوز مجرد الانتصار لهذا الشق أوذاك، إلى محاولة حصر منطقة التلاحم بين العنصرين؛ ذلك أن الوعي ظل في جوهره مشدوداً إلى أشكال التآلف التي يمكن أن تلحمهما، أوالتفاعل دون أن يغيب عن البال اهتمام أولئك أيضاً بمختلف المعاني.. التي استخدم فيها المصطلحان، ولكن البحث إذ ضبط منطقة استقصاء واحدة هي علائق الطرفين، أزاح ما عداها إلا بالقدر الذي تمليه شروط القراءة. من هنا يمكننا الإقرار بأن أشكال العلائق التي تنتظم المعنى واللفظ في وعي النقد العربي القديم.. تقوم على مراهنات تبدأ من ضرورة تحقيق تطابقهما إلى مستوى أعمق تبلغ فيه الصلة بين الطرفين مرحلة التفاعل الذي يكاد يحيلهما كلاً واحداً، خاصة حين تمتد المعاينة لتعانق عبارة كاملة أونصاً بالاستناد إلى مفاتيح متطورة مثل معاني النحو.
وإذ نقر أيضاً بأن دعوى التآلف بين العنصرين أوتفاعلهما، إذ تبدأ من معاينة التجسد الفعلي لهذه الخاصية في مستوى إفرادي يلحم دالاً ومدلولاً، تنتهي إلى مسار معقد تتكامل فيه دوال عدة في بنية عبارة، أوتأتلف في فصول خطاب في بنية كلية، دون أن يغيب عن الرصد معاينة مستويات الخطاب المؤتلفة أوالمتفاعلة دلالياً وتركيبياً وصوتياً، وإن تفاوتت عدسات الرؤية المعاينة للظاهرة بين ناقد وناقد واتجاه وآخر.

فلقد قدر لمقاربة الجاحظ مشكلة اللفظ والمعنى، والنظم، أن تحوي أغلب البذور التي استثمرتها المحاولات التالية، إذ إن إلحاحه على ضرورة تحقيق تطابقهما.. ووعيه الحاد بلحمة عناصر النص في الخطاب الشعري خاصة وتشكلها في نسيج متماسك، بالإضافة إلى ما أرهص به في بحث نظم القرآن وحسن تأليفه وتركيبه من إلماحات، شكلت محاور الاستقصاء المتجدد مع كل دورة نقدية فاحصة للأشكال.

وعلى الرغم أن من جاء بعد الجاحظ من النقاد يظل مديناً لإنجازه بالكثير، فإن تنوع ما طرح في البيئات الثقافية اللاحقة من قضايا، أملى شروطه على النقاد اللاحقين، فانطبع البحث في موضوع اللفظ والمعنى بخصوصية القضايا المطروحة، إذ ارتبط بأشكال الموازنة بين الشعراء وتداخل مع ثنائية الفصاحة والبلاغة، وشد إلى مقابلة الشعر بالنثر، ومع ذلك ظلت مباشرة النقاد القضية شاملة للطرفين، تقوم على مسلمة يقينية خلاصتها ضرورة تطابقهما وتآلفهما.

ولقد ازداد مسار البحث خصوصية واقتراباً من وعي البناء المتميّز للخطاب الأدبي عامة مع الفلاسفة الإسلاميين.. إذ مع الإقرار بأن اهتمامهم بالشعر والخطابة.. لم تمله إلا مقتضيات إكمال البحث في المنطق، إلا أن تكييف النص الأدبي عموماً والشعري خصوصاً بمقتضى وظيفته التخييلية، انعكس في وعي عميق ببنيته اللغوية المتميزة التي تقوم على تلاحم بنية الدلالة مع الأصوات، في إطار من التأليف التركيبي المجسد في الهيئات التأليفية، من هنا كان التناول الشعري لمعاني الحكمة مشروطاً بإخراجها وفق خصوصية الصياغة النوعية للشعر، ومع ذلك لم يتولد من هذا الإنجاز النوعي في قراءة النص الشعري إيمان باستقلاله المعرفي التام.. إذ ظل كالحاشية على الحكمة، لذلك لم يكن لبنيته اللغوية المتميزة أن تفرز دلالتها المتفردة، أوأن تفسح المجال لألوان من التأويلات، وكأن القضية ظلت أسيرة ثنائية الحقيقة المصوغة شعراً.
من هنا يمكننا الجزم بأن نظرية النظم كما وصلتنا في طورها الناضج عند عبد القاهر الجرجاني، تمثل محاولة عميقة عرفها التراث العربي الإسلامي، تجلوبمفاتيح متطورة إشكال اللفظ والمعنى والبنية العامة، إذ باعتمادها في تعليل الظاهرة على قاعدة تفاعل معاني النحومع معاني الكلم، وضعت اليد على نبض دقيق وملموس يشخص الدقائق في تجسدها الفاعل، مدللة بذلك على أن تعليل وحدة المفهوم الناتج عن تفاعل الوحدات الدالة قابل لأن يؤسس.

وعلى الرغم مما جوبهت به هذه النظرية من مآخذ كانحسارها في بنية العبارة الواحدة، وإغفالها مستوى البنية الصوتي.. إذ انحسر بحثها في حدود العبارة تركيبياً ودلالياً بالخصوص، فإن تنزيلها في إطارها التاريخي قد يشفع لكثير من تلك المآخذ. هذه المآخذ التي يمكن التقليل من أهميتها أيضاً عند الإشارة إلى منطلقات هذه النظرية وأسسها القائمة على وعي دقيق باللغة، انطلاقاً من استغلالها ثنائية اللغة والكلام، ومستويات الكلام، وكذا الفهم المتطور للصورة الشعرية المنزلة ضمن شمول النظم، وغير ذلك من العناصر الطريفة.
ثم تفاعلت قواعد التخييل الفلسفية مع أسس النظم الجرجانية عند حازم القرطاجني في محاولة جادة اهتمت بالتنظير للشعر عموماً.. وأرّقها انتظام عناصر الخطاب خصوصاً، فكان تحسس مشكلات اللفظ والمعنى والأسلوب والنظم قواعد القرطاجني في مباشرة الظاهرة.. إذ أرّقه إنجاز عبد القاهر الكبير المعتمد على النحو، وجذبه الميل الفلسفي إلى "التخييل" الذي يبحث في الشعر ويلح على جدواه، فكان أن انقدح من تشابك المنظورين رأي طريف بحيث فتق وعي القرطاجني، مُولِّداً جديداً يضبط به صور التناسل المفرعة للمعاني وأشكال تناسبها، وكذا هيئات العبارات وأنماط تآلفها ثم ينتهي إلى قراءة تأويلية للنظم، إذ استحال بنية شاملة لقصيدة مؤتلفة من أغراض. وهكذا التحم النقد العربي القديم في مجرى انصهار أخير.. تفاعلت في بوتقته عناصر فكرية أفرزها النقاد وصقلها الفلاسفة وأرسى قواعدها مؤسس النظم، ثم شاء لها مجرى الأمور.. أن يؤلّف بينها القرطاجني في عصر لم يكن عنوانه إلا التفكك والانحلال.

وإذا كان في التراث النقدي والبلاغي العربي الإسلامي من زخم الأفكار وتنوع المصطلحات ما يستدعي القراءة المتجددة والتأويل، فإن في حيوية المناهج الحديثة ما يكفل الكشف عن مناطق خفية في هذا التراث أوغامضة، أويعيد تأويل ما استقر له معنى في الكتابات والقناعات.

مصادر البحث ومراجعه

    ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت، 1952م، ط2.
    ابن دريد الأزدی: الإشتقاق، مطبعة الرسالة، القاهرة، 1958م.
    ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة، تحقيق مصطفى الشويمي، مؤسسة أ. بدران للطباعة والنشر، بيروت، 1964م.
    ابن فارس: مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، طبع مصطفی الحلبی، 1969م.
    احمدی، بابک: هرمينوطيقا الحديثة، دار مرکز، طهران، 2001م.
    ازهری: تهذيب اللغة، الدار المصرية العامة للتاليف والترجمة، القاهرة، 1964م.
    انيس إبراهيم: دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1963م، ط2.
    الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1348هـ-# 1961م.
    الجرجاني (عبد القاهر): أسرار البلاغة، تحقيق هـ. ريتر، مطبعة وزارة المعارف، استانبول، 1954م.
    جمعي، الأخضر: اللفظ والمعنی فی التفکير النقدی والبلاغی عند العرب، منشورات اتحاد الکتاب العرب، دمشق، 2001م.
    الجوهری: تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق احمد عبد الغفور عطار، القاهرة، 1977م.
    خليل بن احمد الفراهيدی: کتاب العين، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1984م.
    حرب، علي: نقد النصّ، المرکز الثقافی العربی، بيروت، 2000م.
    حسان، تمّام: اللغة العربية؛ معناها ومبناها، عالم الکتب، القاهرة، 1998م.
    الداية، فايز: علم الدلالة العربی، دار الفکر المعاصر، بيروت، 1996م.
    الراجحي، عبده: فصول فی علم اللغة، دار المعرفة الجامعية، الإسکندرية، 1997م.
    الردينی، محمد علی عبد الکريم: فصول فی علم اللغة العام، عالم الکتب، بيروت، 2002م.
    ريکور، پول: من النص الی الفعل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية، القاهرة، 2001م.
    سيبويه: الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، جـ1، دار القلم، القاهرة، 1966م، جـ2، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1968م.
    السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ومحمد أحمد جاد المولى، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، بدون تاريخ.
    عبدالتواب، رمضان: بحوث ومقالات فی اللغة، مکتبة الخانجي، القاهرة، 1982م.
    محمد داود، محمد: العربية وعلم اللغة الحديث، دار غريب، القاهرة، 2001م.
    الصالح، صبحي: دراسات فی فقه اللغة، المکتبة الأهلية، بيروت، 1960م.
    DE SAUSSURE Ferdinand: Cours de linguistique générale, publié par charles Bally et Albert Sechehaye, ed. Critique preparée par de Mauro, Payot, Paris, 1981.
    JAKOBSON Roman:

    Essais de linguistique générale, t1, ed. de Minuit, Paris, 1963.
    Six leçons sur le son et le sens, ed. de Minuit, Paris, 1976.

معرفی پژوهشکده

پژوهشکده ادیب فقه جواهری در سال 1392 با هدف ارتقا سطح فهم دین براساس ادبیات عربی در حوزه علمیه قم شروع به کار کرد. این نهاد در تولید کتاب (کتابگاه)، مجله، فیلم های آموزشی کوشا بوده و سمینار نقشش ادبیات عربی در فرآیند استنباط و جشنواره ادبی سید علی خان مدنی ره از دیگر خدمت های پژوهشکده به ریاست استاد سید مرتضی حسینی کمال آبادی  است.

تماس با ما

تماس با پژوهشکده ادیب فقه جواهری

تماس با کتابگاه

از این راه ها در ارتباط باشیم

گفت و گو

پیام به پشتیبانی (پاسخگویی فوری)
09197459063

تماس

09197459063

شنبه تا پنج شنبه (9 الی 21)

ایمیل

info@arabadib.ir

 

کد پستی

3749113916

آدرس

قم، خیابان معلم شرقی پ73
Template Design:Dima Group